تعليموجهة نظر

المدرسة العمومية… بين وهم الفشل، وأعراض الشلل

بقلم: ذ. خالد بيلا
صار الحديث عن خوصصة التعليم، الشّغل الشّاغل لجل الأطر العاملة بالحقل التربوي؛ فصرنا نتخبط ونحن نتصفح المواقع المهتمة بالشأن التعليمي، بمقارنات وتحليلات لا تخلو من مشاعر الحسرة والتأسف على واقع بات يؤرق بَال شِغيلة المنظومة، وهي تتأمل مَشرق شمس طال غيابها.
ولكن… كون الأستاذ المربي، قطب الرّحى داخل نظام تشابكت مكوناته، وتقاذفت أطرافه كرة المسؤولية، كونه يتمتع بوعي وادراك للأمور، اكتسبهما بصفة خاصة من خلال خبرته بالميدان، يجب ألاَّ ينساقَ وراء المادة الإعلامية الدسمة التي تُذهب الفِطنة وتُبكم الأفواه، أو على الأقل أن يُلجم انسياقه بتحليل منطقي علمي، يحول دون تقاذفه بين مختلف التيارات الإيديولوجية.
نخص بالذكر هنا الجدل المطروح حول “فشل” المدرسة العمومية، وما يقابله من نزوح نحو التعليم الخصوصي. فالفشل كمفهوم عميق، ليس مرتبطا بعدم التوفّق في الوصول الى الهدف المنشود، أو التعثر في وسط الطريق، أو الخسارة بعد السعي جاهدا للفوز… بل الفشل هو حالة من التعثر الدائم، هو أن لا تتعلم من تجاربك، هو أن تخسر بنفس الطريقة وبسبب نفس الأخطاء… وهذا المفهوم بكل تأكيد ليس هو ما ترتئيه يافطة “فشل المدرسة العمومية”.
حتى نضع اليد على الجرح، يجب أن نحصر مقارنتنا ونضيّق حلقة الداء ما أمكن، ونرمي على الحلبة الثقة المَوكولة للمدارس الخاصة على حساب نظيراتها العمومية من جهة، ومن جهة أخرى الفشل المزعوم لهذه الأخيرة.
قد تندهش لما تتمتع به بعدُ المدرسة العمومية من ثقة وتقدير في بعض مدن المملكة التي تنعدم فيها كليا أو جزئيا المدارس الخاصة، ثقة اعتقدنا أنها اضمحلت وسط زوبعة الفشل التي حصدت ولا زالت، كل بذرة أمل تجرأت على التبرعم. في بعض من هذه المدن، حيث يعتبر “مشروع” مدرسة خاصة محكوما عليه بالفشل، نجد الفصل الدراسي يضم شرائح مجتمعية مختلفة، فابن البقال يجلس بجانب ابن الطبيب، وابن الفلاح يسابق ابن الأستاذ في الإجابة، فصل تؤثثه المنافسة والرغبة في التعلم والتميز والإبداع. حيث ما يبرح التلميذ بالاندماج  وهذا الوسط المتنوعة فئاته الاجتماعية، حتى يتعطش لإشباع حاجته في تقدير الذات وترك بصمته داخل الفصل، متحديا أي معيقات اجتماعية او اقتصادية ومتناسيا ضعف او عجز اسرته الثقافي والمادي، منخرطا في موجة التعلم وتطوير المهارات، خاصة مهارة التكوين الذاتي، فيتحول بذلك التجانس داخل الفصل من استثناء الى قاعدة. كل هذا يزود المدرس بشحنة إيجابية تنمي بدورها حسه الابداعي والتكويني.
خوصصة التعليم قالب مستورد من مصانع الدول المتقدمة، لكن اثناء الاستيراد لم يتم الانتباه لعبارة “يجب احترام نفس مكونات الخليط” ! فالدول المتفوقة في لائحة جودة الأنظمة التعليمية، وجَّهت بحذر وحكمة أشرعة هذا الزوْرق، ولم تدعُ الى خوصصة التعليم، وهو مصطلح خطير لما يكبت في غَياباته من طبقيّة وعدم تكافؤ للفرص، بل شجعّت على الاستثمار في القطاع مع الحفاظ على “مجانية التعليم” والدفاع ما أمكن على التساوي فيه كحق مشروع. فحسَب تقرير لمنظمة “Eurydice” المتخصصة بدراسة واصدار تقارير حول الأنظمة التعليمية بالاتحاد الأوروبي، فالآباء غير ملزمين بأداء واجبات التسجيل بالمدارس الخاصة بكل من بلجيكا، اسبانيا، ايرلندا، ايطاليا (بالنسبة للمدارس الابتدائية المعتمدة)، فنلندا، السويد… والقائمة طويلة. في هذه الدول يقوم الآباء بأداء واجب التسجيل بالمدارس الخاصة، فقط اذا نَظَّمَت هذه الاخيرة دورات تكوينية بالخارج، او فيما يتعلق بخدمات موازية للعملية التعليمية، في حين يبقى التعليم كحق “مجّانيا”. بالمقابل نجد بعض الدول التي تفرض أداء واجب للتسجيل، تأخذ بعين الاعتبار الوضعية الاقتصادية للأسرة، حمايةً لنفسية المتعلم وحقه في تعليم جيد، وفي فرنسا مثلا، والتي يجب أن نكتفي من تقمُّص أنظمتها التعليمية نظرا لفشلها هي الاخرى وبداية تركيزها على دراسة التجربة الفنلندية، يتم تحديد مصاريف التسجيل بالمدارس الخاصة، بناء على مصاريف هذه الأخيرة والغير مُدعَّمة من طرف الدولة. وبالحديث عن فنلندا، كنظام تعليمي رائد، فخوصصة التعليم لا تكتسب اهمية كبيرة، والمدارس الخاصة لا تتجاوز 2% من مجموع المدارس، ولا يحق لها ان تطالب الآباء بأية مصاريف، ويتمثل المدخول الوحيد بالنسبة لها في الدعم المُوَجَّه من طرف دولة، حسب تقرير لنفس المنظمة السالفة الذكر.
وحتى نعاين الوجه الآخر للعملة، وجب علينا أن نستحضر في المقابل، بعضا من مدننا التي صرنا لا نميّز ألوان جدران عماراتها التي تكسوها لافتات “التسجيل مفتوح”، والتي تعرف نزوحا ملحوظا للأسر من أجل ضمان مقعد لأبنائهم في مدرسة خاصة، فبِتْنا نرى مقاعد المدارس العمومية (خاصة الابتدائية) خالية إلا من ابن أجير استعصى عليه توفير بعض الأوراق المالية، ليضمن التحاق فلذة كبده بالنخبة، أو ابن أستاذ لازال متمسكا بأمله وثقته في المدرسة العمومية، أو طفل متخلى عنه، لم تسنح له الفرصة أن يُكوّن صداقات وعلاقات جديدة، فرفاقه خلف سور الخيرية هم أنفسهم زملائه خلف سور المدرسة، في نبذ واضح لمبدأ تكافؤ الفرص، وفي تجسيد عفِن للطبقية الاجتماعية. كل هذا نجده مُتبَّلا بغياب شبه تامّ لمواكبة الأسرة وللتكوين الذاتي، حتى يصير في كثير من الأحيان لا مَندوحة عن الاستنجاد بالمواكبة النفسية والمساعدة الاجتماعية للمتعلم.
هذا النموذج من المدرسة العمومية، أضحى جلّادا لكل طّفرة إبداع، مُقبرا لكل بصيص أمل، تاركا الأستاذ والمتعلم تائهَينِ في حلقة “الكترونات” لا تزيدهما إلا شحنة سلبية ورؤية قاتمة.
صحيح أن القطاع الخاص شريك فعّال في المنظومة التربوية، وهذا لم تُنكره أيّ من الدول الرائدة أنظمتها التعليمية، لكن ما يجب أن نعلمه قبل الشروع في القولبة هو أن جيراننا بالاتحاد الاوروبي لم ينادوا بالخصخصة (ببعض الخدمات التعليمية فقط) بعد إعلان فشل المدرسة العمومية والتطبيل له، بل جاءت هذه الخطوة تثمينا للتعليم العمومي وتطويرا له لا غير، محافظة وبقوة على العدالة الاجتماعية، بحصر مداخيل المدرسة الخاصة، في الدعم الممنوح لها من طرف الدولة (والمتراوح بين 90% و100%)، وحامية لحقوق الأستاذ الذي يتمتع بنفس الإطار، ونفس المكتسبات، وبالأجرة عينها، ويدرّس منهاجا موحَّدا، عاملا في القطاع الخاص كان، أو العامّ.
بتخصيص قطاع التعليم، عمدت دول القارة العجوز، وقبل أي شيء، إلى تكبيل نسبة المدارس الخاصة (2% بفنلندا)، ورغم مجانية التعليم بها، لم تهمل أهمية المدرسة العمومية وحافظت على هيبتها.
كان حرِيّا بنا، قبل تلميع صورة المدرسة الخاصة (بدفتر تحملاتها المغربي)، على حساب هيبة المدرسة العمومية، أن نسعى لتطوير هذه الأخيرة والرقيّ بها، حاذين بذلك حذوَ الدول المتربّعة على قمّة التميّز في مجال التربية والتكوين، وكان جديرا بنا قبل تقليد القالب وشكله، أن نحلل اللّب وفحواه، فحتى الـ”benchmarking” كتقنية فعّالة في فنّ التسويق، تُمَكّن الشركات من دراسة نجاح منافِساتها الرائدة في السوق، تحُثّ بشدة بشدة على الاستنباط  والاستلهام والاستئناس بالتجربة الناجحة، والخروج بسياسة تسيير تواكب خصوصيات ونظام ومُكوّنات الشركة المَعنيّة، وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدل على خطورة التقليد والنسخ واللصق في بعضٍ من المجالات الحسّاسة، فعبارة “صنع في الصين” تربِكُ المستهلك وتبعث في نفسه الشك، حتى وإن كان للمنتوج نفس الشكل والقالب.
وختاما وباستحضار التعليم الخاص في بلادنا “كمشروع ربحي”، يجب أن نعلم جيدا أن التعليم هو الذي يربّي ويوجّه الاقتصاد، وليس العكس، فالاقتصاد كقوة جامحة، لا أخلاقية ونفعية، إن تحكّم في التعليم خرّبه ونخر أساسه.

لتحميل المقال المرجو الضغط على الرابط اسفله:

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button