محسن الأكرمينوجهة نظر

بين المسجد وحب الظل (الجزء12).

 
… انتهى يوم أسيف الممتد طولا وفراغا بصلاة مغرب بمسجد  شهداء صومعة باب بردعاين. قبل الصلاة كانت عيون
أسيف تتيه بين معالم جوانب المسجد تسجيلا لآثار ألم الموت المنبعث من كل نقطة
بالجامع. في ركعة من ركعات تحية المسجد كانت تتراءى له الأبدان البيضاء ملتحفة
بثوب الكفن، كان لون الدم يلون حصير السجود الأصفر، كان الأنين يأتي إلى مسامع أسيف
من كل رافعة مقوسة بالمسجد. حينها ابتل جبين أسيف علوا بالعرق، شعر أن الموت لازال
يسكن المسجد، شاهد في الزاوية الوسطى للمحراب نور أرواح شهداء  الردم لا زالت حاضرة بالجامع و تؤدي الصلوات
الخمس في أوقاتها وتزيد قيام الليل. تذكر يوم تشييع إحدى وأربعين نعشا نحو ثرى
مقبرتي الشهداء والشيخ الكامل، تذكر إيقاعات الحشود وهم يردون علنا التكبير على
الواحد القهار، تذكر نواح اليتامى والأرامل، تذكر كل بكاء ساكنة حي تيزمي، وجناح الأمان،
وسبع لويات، ودرب برغوتي ، بكاء كل حواري المدينة العتيقة. إنها شهقة  حزن الموت التي أعادت إليه  مأساة مسجد خناتة بنت بكار.
لم تنته الركعات الثلاث حتى كانت عيون أسيف تسيل دمعا
متلاحق المورد، حتى أن صوت الشهيق الذي أصدره شد إليه مسامع و انتباه مريدي الصلاة
بالمسجد. بكاء أسيف لم يكن حينها خوفا من الموت، لم يكن فزعا من حالة تكرار حادثة
الردم فوق رؤوس المصلين، فهو يؤمن بمطلق القضاء والقدر. بل كانت دموعه تشمل كل هذا
وذاك، تشمل الحاضر والماضي، تشمل مناحي حياته الذاتية بركام  المآسي الموضعية، تشمل حياة أبناء الشعب مكفوفي الأمل
في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية.
سلٌم الإمام يمينا معلنا انتهاء الصلاة ولم يكمل سلامه
على من  باليسار، لكن عيون أسيف استسلمت مرة
ثانية إلى الدمع المتدفق. الألم الآتي من الماضي القريب جعل أسيف يخفض رأسه، جعل
دموعه تسكن زرابي أرض شهداء جمعة سقوط الصومعة. إنه أسيف الذي أصبح لا يطيق الألم،
لا يطيق افتحاص النظر في أطلال الحزن وأمكنة الموت المفاجئ.
وسط أزقة المدينة سلك أسيف اختصارا كل الدروب التي يمكن أن
تسكنه منزله وصولا. تزايد تفكير أسيف كثافة بمنتهى إنتاجه الفيضي، لكنه رسا اليوم
على شط مرفأ الألم والموت. لعن الشيطان من لغو الكلام والتساؤلات الخانقة المتلاحقة،
لعنه يمينا وشمالا، لكنه أحس أنه لا زال يتبع خطواته بالترادف. اشتعلت أنوار الأزقة
الضيقة وانطلق نورها رديئا، فيما ناس المدينة الكرماء بدأت أرجلهم تسعى بخفة
وتلتحق بالمنازل.
بعد أن فك أسيف أقفال منزله حلا،  دخل مسرعا إلى المبرد، وارتوى بكأس ماء بارد ليروي
عطشه، وأملا في حل العقدة التي تسكنه في الحلق. رمى كل ملابس الخروج من وسط الدار إلى
منتهى موضع نومه. ولكي يزيح عن نفسه كابوس تلاحق الأفكار، أشعل سيجارة بشرفة
المنزل. إنها السيجارة الثانية في يومه بعد أن قرر الإمساك صوما عن التدخين.  بنفس قوية دفع دخان السيجارة خروجا من صدره، إنه
يريد التخلص من كل ضباب مسودة الحياة.
لحظتها وهو بالشرفة الخشبية المطلة على شجرة التوت
الفخمة، وعلى مرمى من عيونه بالخط المستقيم، أثار انتباهه في ركن الزاوية المنكسرة
والتي خفت شعاع  تغطية الضوء بها .  لاحظ حركات متتالية لنزق الشباب، لاحظ قبلات
مسروقة بين شابة وشاب.  كان أسيف لا ينظر إليهما
بالمباشر،  بل إلى الظل المنعكس أرضا والذي
فضح تواجدهما بالالتصاق الجسدي والانفصال. كل حركات الظل يتابعها أسيف علوا من
الشرفة، كل الهمسات الدافئة يترجمها أسيف إلى ما يدور من حوار بين سارقي لقطات الحب
الليلي.
تدلى عنق أسيف خارج الشرفة بعد أن أطفأ شعلة السيجارة
التي يمكن أن تفضح استراقه للسمع والنظر. حين حلل صورة الظل الممتد بقد أطوال أصحابه،
عرف أن الشابة ترفض القبل، ترفض الاقتراب بالدنو، ترفض تناسق الأجساد وحلم عالم المحسوسات،
ترفض نظرات القرب. أحس بتدافع جلي بين الذوات المتحركة فوق خشية الظل، أحس باندفاع
الشاب المتزايد في قطف الشهد وشم الورد، أحس بتأني الشابة وخطواتها إلى الوراء. آلة
تحرك الحب المسكوت عنه في زاوية الظلام كسرت تواليه أصوات فتية الحي الصادحة
بالضحك المتعالي. في تلك اللحظات وضمن الظل المنعكس، لاحظ أسيف يدي الشابة تخفي
وجهها، لاحظ أن الشاب حمى ملمح الشابة بظهره. إنها نهاية اللحظات المسروقة والمسكوت
عنها بالتستر. بعد أن انتهى هدير الفتية ابتعادا. انطلق ساق الشابة هرولة من وراء
ظهر صديقها. لم تعره اهتماما، لم تستأذنه بالانسحاب والفرار، بل قررت وانسحبت بخفة
هدوء.
ازداد شوق أسيف إثارة فهو يريد كشف الحجاب عنهما، لكنه
فشل في مسعاه مادامت الشابة المراهقة رافقت جدران البيوت المظلمة مشيا واتجاها.
مادام الشاب جلس القرفصاء ويداه تحمل رأسه ثقلا و ألما على انسحاب الحبيبة. أحس أسيف
في ظل السكون الذي يخيم المكان دقات قلب الشاب تزداد شدة وتقل سرعة، أحس أن قيس لا
يملك من حياته إلا مشاعر الحب، إلا لحمة العشق غير المنتهي تجاه شقه الثاني
المنسحب في ظلام الأزقة.
نفس تكتل الجسم قرفصاء اتخذه أسيف في شرفته، حينها شعر بأن
التفكير قد تحول بمتم مرمى نقطة شعاع زاوية الظل إلى التي هي سماؤه في الهوى نوارة
وجه عروس.
ردة فعله يسكنها البطء في ظل تدني مستوى كل مبادرة جريئة،
تسكنها سلبية الأفعال تجاه نوارة البعيدة في المكان القريبة من القلب والتفكير .
تذكر أنه يمتلك رقم هاتفها الخلوي، ما هذا الغباء 
!!! قالها أسيف. تذكر أنه قطع وعدا على نفسه أن يهاتفها يوما. أصدر
صوت تأوه شديد عن سر فقر تفكيره بوجود مفتاح الحل لكل أبواب سر الوصول إلى نوارة.
 نهض وقوفا بعد أن
شعر بالإعياء. فرحة الحل لم تستو بالتمام فهو قد سجل رقمها على ظهر ورقة حافلة
النقل العمومي. حينها لأول مرة أرى أسيف يسير هرولة إلى كل سراويله المعدودة بتمام
اليد. ألقى بكل ما بجيوبها فوق مسطح السرير، لحد الآن لم تظهر البطاقة الوردية من بين
محتويات ما يوجد من كومة متلاشيات بجيوبه. لحظة ومن بعيد لمح ثنايا اللون فانقض
عليها بخفة،  فيما لونه قد انفتح ابتساما ،
توقف ووضع ورقة حاملة رقم هاتف نوارة على قلبه. والابتسامة لا تفارق محياه، حين
قال، ها قلبي، ها تخمامي…. بما سيأتيك الله.

ذ محسن الأكرمين :mohsineelak@gmail.com

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button